في قلب الجزيرة العربية، وعلى أطراف مدينة الطائف، يقف سوق عكاظ شاهدًا على تاريخ طويل من الفصاحة، والشعر، والتجارة، والفنون. ليس مجرد سوق بالمعنى التجاري، بل ملتقى حضاري وثقافي ضارب في جذور التاريخ، ارتبط اسمه بأزهى عصور العرب قبل الإسلام، حين كان الشعراء والفرسان والتجار يجتمعون فيه كل عام، ليصنعوا حدثًا ينتظره العرب من أقصى الجزيرة إلى أقصاها.

الجذور التاريخية
يعود تاريخ سوق عكاظ إلى أكثر من 1500 عام، حيث كان يُقام في شهر ذي القعدة من كل عام، بعد موسم الحج، ليكون ملتقىً للتجارة وتبادل السلع، وفي الوقت نفسه منبرًا للشعر والخطابة. هنا كانت تُلقى القصائد التي ستُخلّد في الذاكرة العربية، وهنا كان النقاد يقيّمون شعراء الجاهلية، في تنافس حاد على الفصاحة والبلاغة. أسماء مثل امرؤ القيس، وزهير بن أبي سلمى، والأعشى، وعنترة بن شداد، جعلت من عكاظ مدرسة أدبية وميدانًا للغة قبل أن تكون هناك مدارس أو جامعات.
أهمية عكاظ في الجاهلية والإسلام
إلى جانب الشعر، كان السوق مركزًا استراتيجيًا للتجارة، حيث تجتمع فيه القوافل القادمة من اليمن والشام والعراق. ومع مجيء الإسلام، استمر عكاظ كملتقى اجتماعي وتجاري، لكنه بدأ يخفت مع تغير طرق التجارة وظهور مراكز جديدة، حتى اندثر تمامًا في القرون التالية، وظل اسمه حاضرًا في الذاكرة والكتب.
بعث السوق من جديد
في عام 2007، عاد سوق عكاظ للحياة بمبادرة من الأمير خالد الفيصل، أمير منطقة مكة المكرمة آنذاك، ورؤية طموحة لإحياء التراث العربي الأصيل. ومنذ ذلك الحين، تحوّل إلى مهرجان سنوي يجمع بين الأصالة والحداثة؛ حيث تُقام مسابقات للشعر الفصيح، وعروض مسرحية تحكي قصص العرب الأوائل، بالإضافة إلى الحرف اليدوية، والعروض الفلكلورية، ومشاركة وفود ثقافية من مختلف الدول العربية.

مرحلة التطوير الكبرى
شهد سوق عكاظ قفزة نوعية مع إدماجه في موسم الطائف تحت إشراف الهيئة السعودية للسياحة والتراث الوطني بقيادة الأمير سلطان بن سلمان حين كان رئيسها. تم تطوير البنية التحتية، وإنشاء قرى ثقافية، ومناطق للعروض التفاعلية، ليصبح السوق تجربة سياحية وثقافية متكاملة، تنافس أكبر الفعاليات العالمية، وتجذب مئات الآلاف من الزوار سنويًا.

اليوم… عكاظ جسر بين الأمس والغد
ما يميز سوق عكاظ اليوم أنه لم يعد مجرد استعراض للتاريخ، بل نافذة على المستقبل؛ حيث يجمع بين الشعراء الجدد ورواد الأعمال، وبين فنون الخط العربي والتصميم العصري، وبين العروض الحية والتقنيات الحديثة. إنه نموذج حي لكيف يمكن للتراث أن يزدهر إذا ما قُدِّم برؤية معاصرة.

سوق عكاظ باختصار هو حكاية وطن تُروى على أرض الطائف، يلتقي فيها صوت الماضي مع نبض الحاضر، ليذكّرنا بأن الهوية ليست مجرد تاريخ نقرأه، بل روح نعيشها ونطورها للأجيال القادمة