قلعة المويلح التاريخية ودورها لخدمة الحجاج
سلوى بن حريز المري / جدة/ عين المملكة
تقع بلدة المويلح في منطقة تبوك شمال غرب المملكة والجزيرة العربية، وتطل البلدة على البحر الأحمر، وتتبع اليوم لمحافظة ضباء.
كانت سابقآ إحدى المحطات الرئيسية لطريق الحج الساحلي وبوابة من بوابات الشمال في العصور الإسلامية ،وبنيت في عهد السلطان سليمان القانوني ستة 968ه وقد عمرت 400 عام ،ويعتبرها بعض المؤرخين من أكبر القلاع بالمملكة العربية السعودية،ومن كبرى القلاع القائمة على طريق الحج وبداخلها فناء ومسجد وبئر ،ويحيط بالفناء من جميع الجهات وحدات أقيمت لخدمة الحجاج ،كما أن للقلعة أبراج من مختلف الأركان الأربعة.
ويرى بعضهم أن تسميتها جاءت من العيون المالحة التي كانت بها، فالمويلح تصغير مالح، بينما يرى آخرون غير ذلك.
أما اسمها القديم فهو النبك، وقد أسماها ابن فضل الله العمري (ت 740هـ)، والجزيري (ت 977هـ) في “درر الفرائد المنظمة” بالاسمين، أما عند الرحالة والجغرافيين والمؤرخين قبل ابن فضل الله العمري فكانت تسمى بالنبك، ونجد تسميتها بالمويلح عند الرحالة الذين جاءوا بعد الجزيري كالعياشي، والسراج القيسي، وكبريت الموسوي، وغيرهم. أما ابن فضل الله العمري وهو سابق على الجزيري فأسماها المويلحة، ومثله ابن حجر العسقلاني (ت 852هـ)، والمقريزي، والسخاوي، وابن تغري بردي، والقلقشندي.
وذكر بعض المؤرخين أن موقع المويلح هو نفسه موقع مدين مدينة قوم شعيب عليه السلام، وأن اسم مدين اختفى بعد خرابها، وحل محله اسم المويلح. لكن الجزيري ذكر أن مدين أو مغائر شعيب كانت تقع على طريق الحاج المصري قبل المويلح في طريق القادم من مصر إلى مكة. كما يوجد في مدين كثير من الآثار التي حفرت في الجبال والكهوف، فهي بالتأكيد موقع آخر غير المويلح.
وكانت المويلح قديما ضمن منازل طريق الحجاج، ولا سيما الحاج المصري، ولتوفير المياه لهم حفرت في المويلح عدة آبار، كما بنيت فيها القلعة الشهيرة.
وبنيت القلعة في القرن العاشر الهجري، على مرتفع يشرف على البحر الأحمر، ووضعت في زواياها أربعة أبراج ضخمة فيها فتحات كثيرة، وبين كل برجين سور فيه فتحات صغيرة “مزاغل” للبنادق، كما كان به ممر يتسع لسير الجنود. ولا شك أن حماية الحجاج هي أحد أسباب بناء هذه القلعة، لكنه ليس السبب الوحيد.
تدل اللوحة المثبتة فوق بوابة مدخل القلعة أن البناء كان سنة 968هـ، وهذا ما يجعل المحلل التاريخي يميل إلى أن أحد أسباب بنائها هو الصراع على البحر الأحمر، فمن المعروف أن البرتغاليين كانوا يحاولون السيطرة عليه منذ نهاية القرن التاسع الهجري، وقد تصدى لهم العرب على ساحلي البحر الأحمر من أهل الحجاز وأهل مصر، وأرسل سلاطين مصر عدة جيوش لصد الحملات البرتغالية، كما قام أهل الحجاز ويعاونهم إخوانهم من بعض مناطق الجزيرة العربية الأخرى بصد البرتغاليين وقتالهم. على أن الحجاز قد خضع لسيطرة الدولة العثمانية بعد عام 922هـ، إلا أنها لم تقم بأي دور لحماية الحجاز والبحر الأحمر من البرتغاليين، وكانت المقاومة ذاتية من أهل الحجاز وإخوانهم وأعوانهم في المناطق المجاورة؛ ما سبب حنقا شديدا على السلطان العثماني حينها وهو سليمان القانوني الذي لم يقم بأي دور في مقاومة البرتغاليين في المنطقة، إذ أهملها وأهمل الدفاع عنها، ولولا ما قام به سكان المنطقة المحليون من جهاد وجهود في الدفاع عن وطنهم لوقعت أجزاء من الحجاز تحت الاحتلال البرتغالي، ولسيطر البرتغاليون على البحر الأحمر.
كثر السخط واللوم على السلطان سليمان القانوني بسبب تخليه عن مسؤولياته، ويرى بعض الدارسين أنه اضطر إلى الموافقة على بناء قلعة في المويلح، وهي هذه القلعة التي نتحدث عنها. على أن عبدالقادر الجزيري يذكر أن الذي بناها الباشا علي آغا عند ولايته لمصر، ويذكر أن بداية البناء كانت عام 967هـ، وأن من أهداف بناء القلعة أن تكون “موئلا ومعقلا لحفظ أموال التجار والرعايا، وردعا لأهل الفساد والبلايا”، ويورد الجزيري تفاصيل دقيقة عن طريقة بناء القلعة، والذين تولوا ذلك، والآبار التي حفرت بها، ويذكر أنها صارت بعد ذلك خمس آبار، كما يذكر أنه شرب ماءها فوجده عذبا سائغ الشراب.
في عام 1185هـ/1771 رممت القلعة، إذ عقد مصطفى بن محمد المويلحي وكيل القلعة اجتماعا في القلعة لتحرير وثيقة الترميم،
وفي عام 1236هـ أجريت تحديثات على عمارة القلعة، كما أحدثت مرة أخرى عام 1281هـ/ 1864.
تبعت المويلح للدولة السعودية الأولى، ثم تبعت للملك عبدالعزيز عام 1344هـ، ويذكر الشيخ عبدالرحيم بن أحمد الوكيل أن قلعة المويلح كانت مقرا لبعض قوات الملك عبدالعزيز بين عامي 1345 و1354هـ.
ومع انتشار الأمن والأمان، وترتيب الأوضاع الإدارية، وتنظيم الجيش والشرطة، لم تعد القلاع تقوم بالدور الذي تقوم سابقا، وظلت لها قيمة تاريخية وأثرية.
يرتبط تاريخ المويلح وقلعتها بأسرة الوكيل، المويلحي ارتباطا وثيقا، فقد تولوا إدارتها على مدى قرون.
الحركة التجارية:
ساعد موقع المويلح على طريق الحجاج في ازدياد الحركة التجارية فيها. ومنذ أنشئت قلعة المويلح وحفرت الآبار استطاع السكان التغلب على ملوحة الماء، حتى إن الرحالة عبدالغني النابلسي (ت 1105هـ) مدح المويلح بحلاوة مائها، وذكر أنها عامرة بالناس، وقدر الرحالة جورج أوغست فالين سكان المويلح عام 1256هـ – 1840 بـ70 أو 80 عائلة، وأن الحامية فيها تتكون من 40 شخصا، وذكر أن منازلهم مبنية بالحجر والطين الرملي، كما يبين أن البساتين والنخيل الموجودة في المويلح أكبر من مثيلاتها التي تقع في الطريق إلى مكة. ويذكر الجزيري أن كثيرا من سكان المويلح يعملون في صيد الأسماك، وذلك قبل بناء القلعة. أما بعد بناء القلعة فقد انتشرت الزراعة، وساعد على ذلك خصوبة الأرض، فأصبحت تنتج التمر، والكروم، والحبوب، والفول، والقثاء، والبطيخ، ويذكر علي باشا مبارك التبغ “التتن، الدخان” أيضا. وتقام سوق أمام بوابة القلعة يباع فيها ما يحتاجه الحجاج والمسافرون، وتجلب لها البضائع. ويقيم التجار والباعة الذين يقصدون المويلح في أكواخ أو خيام يجلبونها معهم. وارتبطت المويلح بعلاقات تجارية مع موانئ البحر الأحمر، ومع بعض المدن المصرية وغيرها. ويورد الرحالة والمؤرخون طرق التبادل التجاري والبيع والشراء التي تتم في المويلح.
أما العملة المستخدمة فيبدو أنها تتغير من وقت لآخر، ويذكر فالين عام 1840 أن العملة المتداولة في المويلح هي دولار ماريا تريزا الفضي، والريال الإسباني، والريال الفرنسي، والقرش.
في كتب الرحالة والمؤرخين:
يذكر الدكتور جواد علي في “المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام” أن ميناء لويكة كومة Lueke Kome، أي المدينة البيضاء “من أهم الموانئ التجارية على سواحل الحجاز على عهد البطالسة، منه تتجه السفن إلى الساحل المصري لتفرغ شحنتها هناك، فتنقل إما بواسطة القوافل، وإما بالسفن من القناة المحفورة بين البحر الأحمر ونهر النيل لتتابع طريقها إلى موانئ البحر المتوسط… ورأى ونست Vincent إن لويكة كومة هي المويلح في الزمان الحاضر، وهي قرية بها بساتين ومزارع ونخيل، ومياهها من الآبار، لها طريق قوافل إلى المدينة وإلى تبوك”.
ومن النصوص المتقدمة عن المويلح بهذا اللفظ أو بالتأنيث ما ذكره ابن فضل الله العمري (ت 740هـ) في موسوعته الكبيرة “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار”، إذ قال: “النبك وتسمى المويلحة… وهو على ساحل القلزم، ويرد ماؤها وهو ملح رديء لا يكاد يسيغه الشارب، ومن شربه أفرط به الإسهال لشدة ما به من البورقية والملح”. ويلاحظ أن وصف ماء المويلح بالملوحة كان قبل بناء القلعة وحفر الآبار الجديدة، أما الرحالة الذين جاءوا بعد ذلك فقد وصفوا ماءها بالعذوبة لأنهم شربوا من مياه آبارها الجديدة. ومن المعروف أن البحر الأحمر كان يسمى قديم القلزم.
وزار الجزيري المويلح عام 955هـ، وتحدث عنها في رحلته حديثا مطولا في مواضع متعددة، فذكر ما يجلب إليها من البضائع، وأنها أصبحت أجل مناهل الحجاز، ووصف أهلها باللطف والكرم ومحبة الناس، كما ذكر أن اللصوص والسراق كانوا يكثرون حولها ليلا.
وينقل العياشي (ت 1090هـ) في رحلته “ماء الموائد” عن الشيخ البكري قوله: “ثم ارتحلنا منها بندر المويلح المشهور، ورأينا بساحله المراكب من السويس والطور، فيا له من بندر فاق البنادر، يأتي إليه الوارد والصادر، وبه جملة من الكروم، التي تذهب برؤيتها الهموم، وبمخازن القلعة تودع الودائع، وإلى سوقها تساق نفائس البضائع، من ثمار تجلبها العرب، وزلابية عجينها كاللجين فإذا قليت أشبهت الذهب”.
ويقول الورثيلاني (ت 1193هـ) في رحلته عن المويلح: “بندر المويلح وقد نزلنا عند الظهر والله أعلم وهو بندر عظيم كثير الأرزاق، ثم أن أسواقه تامة، وفيها ما لا يحصى من أنواع النبات والأطعمة المختلفة والملابس المزخرفة والطبائخ المنوعة وعلف الدواب كثير، وفيه مرسى قوية النفع، وأن هذا البندر أعظم بنادر الدرب نفعا وأسرعها لقضاء الحاجة فلا تعلم نفس ما يوجد فيه من منافع الخاصة والعامة”.
ووصفها محمد بن عبدالله الحسيني الموسوي (ت 1012هـ) الشهير بكبريت في رحلته “الشتاء والصيف” بقوله، “ثم لم نزل نجوب البوادي، ونقطع الفدافد خلف الدليل والحادي، حتى أتينا على المويلح ولا أدري أهو مشتق من الملاحة أم الملوحة، أم الحال كما قال، ذات لها في نفسها وجهان. وبالجملة فهو ساحل راق ماؤه صاف، وطاب به العيش حتى كأنه ما ذاق طعم الجفاء، وقد اخضرت جوانب بقاعه، وتحقق لدى روضه ما نسخه الورد الذكي برقاعه، فأقمنا به ثلاثة أيام تحت البواسق، ونشر تلك الرياض العبيرية عابق، نهارنا على الماء والخضرة والوجه الحسن… واتفق في المويلح على الرخاء ما لا تصفه الأقلام ولا تحويه الأرقام وفيه السمك الطري، والفواكه المتنوعة، والأراك الكثير.
وما قيل فيه:
سألوا مديح مناهل فأجبتهم
هذي المناهل مدحها لا يصلح
وأقول إن ألزمتم بمديحها
هذا المويلح في المناهل أملح
وبالجملة فإنه لم يكن في تلك المنازل أحسن من هذا الساحل، مياهه بالنسبة إلي تلك المنازل مستعذبة، وبساتينه مزهرة طيبة، جوه فسيح، وهواؤه صحيح، فلا زال كذلك جنة في تلك المسالك”.
كما زارها الضابط والرحالة المصري الشهير محمد صادق باشا (ت 1320هـ) أثناء طريق المحمل المصري إلى الحج عام 1297هـ، وذكر أنها قلعة حصينة بها جامع ومخازن ومحافظ، وذكر أن الحامية بها 23 عسكريا، ووصف طولها وعرضها، والمدافع والآبار والمخازن التي بها، وعدد أهلها، وغير ذلك.
وقد زار المويلح وتحدث عنها عدد من الرحالة الغربيين مثل ريتشارد بيرتون، وفالين، وعبدالله فيلبي.